إذا كانت التربيةُ الروحيةُ والنفسية والأخلاقية هي طبَّ الأرواح والنفوس، فإن الطبَّ الوقائي والطب العلاجي هما طبُّ الأجساد، وهما التربية البدنية الراعية للجسم؛ لأنه كما قيل بحق: العقل السليم في الجسم السليم.
وتعد مهنة الطب مِن أشرف المهن التي عرَفها الإنسان عبر تاريخه الطويل، ومصدر شرفها أنها تقوم على تخفيف آلام المتألِّمِين والمكروبين والمرضى، وتهدف إلى حفظ صحة الإنسان، والتغلب على المرض بالعلاج السريع، وتقديم النصائح والإرشادات الطبية للمريض، حتى يتم له الشفاء، وينعم بالصحة والعافية.
يقول ابن خلدون في مقدمته:
صناعة الطب تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض ويصحُّ، فيحاول صاحبها حفظ الصحة، وبرء المرض بالأدوية والأغذية، بعد أن يتبيَّن المرض الذي يخص كل عضو من أعضاء البدن، وأسباب تلك الأمراض التي تنشأ عنها، وما لكل مرض من الأدوية؛ مستدلِّين على ذلك بأمزجة الأدوية وقواها، وعلى المرض بالعلامات المؤذنة بنضجه وقَبوله الدواء أولًا في السجية (الطبيعة)، والفضلات والنبض، محاذين لذلك قوة الطبيعة؛ فإنها المدبِّرة في حالتَي الصحة والمرض، وإنما الطبيب يحاذيها ويعينها بعض الشيء بحسب ما تقتضيه طبيعة المادَّة والفصل والسن، ويسمى العلم الجامع لهذا كله علم الطب"[1].
وعلم الطب من العلوم القديمة قِدَم الإنسان، وقد شارك في وضع قواعده وصياغة نظرياته أممٌ شتى في مختلف الأزمان والبلدان وتناقل الناس معارفه من أمة إلى أخرى.
ومن المتَّفِق عليه بين الباحثين في تاريخ العلوم التجريبية أن صناعة الطب كانَتْ تشغَلُ أهميةً كبيرة ومساحة بارزة في الحضارات القديمة: المصرية والبابلية والصينية، والهندية، والفارسية واليونانية، كما عرَف هذه الصناعة ومارسها عربُ الجاهلية.
وهكذا فإن علم الطب من العلوم القديمة في التاريخ الإنساني، وهو أحد العلوم المعبِّرة عن المستوى الحضاري للتطوُّر البشري، وعندما ظهر العرب امتصُّوا رحيق الحضارات الأخرى في الطب، وتسلَّموه من هذه الحضارات تَسُوده البدائية، دون أن يعني ذلك عدم وجود أشكال من الطب جديرة بالتقدير، وقد أعطى العرب للطب قدرًا كبيرًا من رعايتهم واهتمامهم؛ مما جعله يتقدَّم على أيديهم، حتى أصبح من معالم الحضارة العربية في عصورها الزاهرة.
وقد ظهر اهتمام العرب المسلمين بالطب في مرحلة باكرة من تاريخهم؛ وذلك بتأثير القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة التي تحثُّ على التداوي، وتُفيد أن الله تعالى ما خلق داءً إلا وجعل له دواءً، إلا الموت[2].
أما القرآن الكريم، فقد تضمن إشارات صريحة إلى ما يهمُّ الناس من هذا العلم، ثم ترك لهم ميدان البحث فيما وراء ذلك؛ ولذا جاءت بعض الآيات القرآنية داعيةً إلى المحافظة على الصحة العامة، والبعد عن الأسباب المجلبة للأمراض، وفي هذا بيان للمسلمين أن تحصيل علم الطب، واستعمال العقل الإنساني للنبوغ فيه، فرض كفاية على المسلمين، حتى يعيش مجتمع المسلمين مكفولًا برعاية صحيَّة تحفظ على الصحيح صحته، وترد على المريض عافيته.
ولقد أشار القرآن الكريم إلى أصول الطب الثلاثة ومجامع قواعده، فقواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية من المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة.
قال تعالى في آية الصوم: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، وللمسافر؛ طلبًا لحفظ صحته وقوَّته عما يضعفه من مشاق السفر.
وقال سبحانه في آية الوضوء: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، فأباح للمريض العدولَ عن الماء إلى التراب، خيفةَ أن يصيب جسدَه ما يؤذيه.
وأما عن استفراغ المواد الفاسدة، فقال عز وجل في آية الحج: ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]، فأباح لمَن كان مِن معشر المحرِمين مريضًا مرضًا يتضرَّر معه بالشعر، أو كان به أذًى من رأسه كقُمَّل وصداع، أن يحلق في الإحرام استفراغًا للمادة التي أوجبت له الأذى، ويقاس على هذا كل استفراغ يؤذي انحباسه.
وأما السُّنة الشريفة، فقد وردت عدةُ أحاديث تدعو الناس إلى ضرورة التداوي واستشارة الأطباء والتماس العلاج، كما تأمر بالمحافظة على الجسم والعقل، وتنهَى عن كل ما يضر الناس في صحتهم، وترغبهم في رياضة الأجسام.
ولقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم الأسس العامة التي تدفع المسلمين إلى تعلُّم علم الطب والمهارة فيه، وعرض المريض على الطبيب، وتطهير علم الطب من الخرافات الطبية التي تعالج بواسطة السحر والشعوذة والتمائم والكهانة وغير ذلك، ونهَى عنها نهيًا مطلقًا.
وليعلم المسلمون أن الشريعة الإسلامية أوجبت عليهم أن يتمرسوا في العلوم الطبية ويتعلموها، بل ربطت بين علم الطب والدين الإسلامي برباط لا ينفصم من القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة[3].
ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المأثورةِ في علم الطب، ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً)).
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تداوَوا؛ فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له دواءً، غير داء واحد))؛ يعني الهَرَم، أو الشيخوخة.
والحق أن الطب العربي قد ظل بملامحه البسيطة المعتمدة على الأعشاب والنباتات الطبيَّة، وعلى الكي والحجامة وغيرهما من الأساليب البدائية؛ حتى مطلع العصر الأموي، الذي شهد بداية معرفة العرب بالمؤلفات اليونانية في الطب، وقد نقلت هذه المؤلفات إلى السريانية أولًا، ثم إلى العربية، ورُوي أن أول من شرع في نقلها هو خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85 هـ/ 704م).
والحقيقة أنه مع بدايات الدولة الأمية بدأ الطبُّ العربي يتعرَّف على المؤلفات الإغريقية وغيرها، وقد كان لمعاويةَ (ت 60ه – 680م) طبيبانِ نصرانيان دمشقيان؛ هما: ابن آثال، الذي كان على معرفة بالسموم والأدوية، والطبيب الآخر لمعاوية هو: أبو الحكم الدمشقي، وكان طبيبًا أمينًا ناصحًا، فاعتمد عليه معاوية في علاج نفسه وأهل بيته، وقد ترك ذرية من الأطباء المعروفين في العصر الأموي.
ومن أطباء العصر الأموي المعروفين: "تياذوق" (ت 90 هـ)، وكان في أولِ دولة بين أمية، وكان تياذوق صديقًا للحجَّاج بن يوسف الثقفي، وكان الحجاج يثق فيه ثقة تامة، فضمه إلى خدمته واستعمله في علاج أمراضه.
وكان للمرأة العربية نصيبٌ من المشاركة في علم الطب على عهد الأمويين، ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى (زينب الأودية)، وهي من طبيبات العصر الأموي البارزات، وكانت كاحلة، ماهرة بطب العيون[4].
وهكذا تزايد اهتمام العرب بالطب في عهد بني أمية، ولا سيما بعد ظهور بعض الأمراض في الرعية بسبب العمران وكثافة وجود الناس في بيئات اجتماعية، فها هو والي العراق زياد بن أبيه يكتب صفة دواء داء الكلب وعلته على باب المسجد الأعظم بالبصرة؛ ليعرفه جميع الناس؛ (كما ذكر الجاحظ في كتابه الحيوان).
ولما تولَّى الوليد بن عبدالملك السلطة شغف بالعمران والإصلاحات العمرانية، وكان من ضمن ما اهتم به بناء المستشفيات، وتخصيص مرتبات للعميان والمجذومين والزمنى (ذوى الأمراض المزمنة).
وقد ذكر الشاطبي أن الوليد أقام في دمشق مستشفى للمجذومين بالقرب من الباب الشرقي؛ ذلك لأن في ماء دمشق – على ما قيل – خاصية دفع مرض الجذام عن أهلها، فلا يصيبهم إلا فيما ندر، وإذا حل الغريب به تكسرت عنه عاديته أو يتوقف سيره في جسمه، ثم قال: (وذكر بعضهم أن الوليد لما ولى إسحاق بن قبيصة الخزاعي ديوان الزمنى بدمشق قال: لأدعن الزَّمِن أحب إلى أهله من الصحيح، وكان يؤتى بالزمن حتى توضع في يده الصدقة)[5].
وفي عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز (ت 101هـ – 702م) أسلم الطبيب السكندري عبدالملك بن أبجر الكناني على يد الخليفة نفسه؛ الذي صحبه واستطبه، وقد روى سفيان الثوري عن ابن أبجر أنه قال: "المعدة حوض الجسد، والعروق تشرع فيه، فما ورد فيها بصحة صدر بصحة، وما ورد فيها بسقم صدر بسقم".
ومن أبرز أطباء العصر الأموي حكم بن أبي الحكم الدمشقي، وكان مقيمًا بدمشق، وعُمِّر طويلًا، وكان على قدر كبير من المعرفة بالطب، وكذلك ولده عيسى بن أبي الحكم الدمشقي.
ومما يدل على مهارة أطباء العصر الأموي؛ أنه خرجت للسيدة سكينة سلعة "غدة أو خراج" في أسفل عينها، ثم أخذت تنمو، فقام الطبيب بدراقس بشق جلد وجهها وكشطه حتى ظهر أصل السلعة، ثم نزعها وسل عروقها، فعاد وجه سكينة إلى ما كان عليه سوى موضع الجرح[6].
على أنَّ عصر نضج الطب وازدهار علومه في الدولة الإسلامية اقترن بحركة الترجمة الواسعة، التي قادها وأشرف على تنظيمها بعض الخلفاء المستنيرين من بني العباس؛ الذين أنشؤوا في مدن عديدة مراكزَ للعلم والمعرفة والترجمة.
وتجدر الإشارة إلى أن العرب عندما فتحوا بلاد الفرس والشام، وجدوا خزائن العلم اليوناني والروماني والفارسي منتشرةً عديدة، فأمر الخلفاء المهتمُّون بالعلم بنقل بعضها إلى اللغة العربية، وبدأت حركة الترجمة الواسعة للعلم اليوناني من اليونانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية.
ولعلَّ مما ساعد على انتشار الترجمة في العصر العباسي، هو أن الدولة العباسية كانت تعد العلم والترجمة مظهرينِ هامَّين من مظاهر التقدم الحضاري والثقافي والعمراني للدولة العباسية، إبان قوتها وازدهارها، كما أن الخلفاء عمِلوا على التعرُّف على الثقافات والحضارات القديمة، من خلال الاطلاع على مؤلفاتهم المنقولة إلى السريانية ثم إلى العربية؛ حتى إن المأمون لَمَّا انتصر على الروم سنة (215 هـ/ 830م)، وعلِم بأن اليونان لَمَّا انتشرت النصرانية في أراضيهم قد جمعوا كتب الفلسفة والعلم من المكتبات، وألقوا بها في السراديب، فطلب المأمون من ملك الروم أن يعطيه هذه الكتب مكان الغرامة التي كان قد فرضها عليه، فقبِل "توفيل ليثوفيلوس" ملك الروم ذلك، بل اعتبر ذلك راحة له وكسبًا عظيمًا.
وبإنشاء الخليفة المأمون لبيت الحكمة في القرن الثالث الهجري، ظهر مترجمون قديرون مَهَرة في المصطلحات، وفي اللغات العربية واليونانية والسريانية؛ ولهذا نجحوا في ترجمة جميع كتب أبقراط وجالينوس وشروحها إلى اللغة العربية، حتى بلغ عدد ما ترجم من آثار جالينوس ما يقارب من مائة كتاب بالسريانية، وتسعة وثلاثين كتابًا نقلت إلى اللغة العربية، وكذلك ترجمت جميع مؤلَّفات أبقراط وشروح جالينوس عليها، وذكر ابن النديم الكتب الستة عشر لجالينوس التي يقرؤها المتطبِّبون أولًا، وكتبه الأخرى، ويربو عددها على الخمسين كتابًا، وقد ترجَمها إلى العربية عدد من المترجمين، وقد عالجت هذه الكتب مختلفَ فروع علم الطب وعلاج أنواع الأمراض، فاحتلت الكتب الطبية العربية الصدارة في نهاية القرن الثالث وما بعده، وقد نقل الغربيون قسمًا غير قليل منها إلى اللغة اللاتينية[7].
وكانت المدينة الإيرانية (جنديسابور) – وتقع في الجنوب الغربي من فارس – تمثل أهمية خاصة في العلوم الطبية آنذاك؛ لكونها البوتقة التي انصهرت فيها الأفكار اليونانية والهندية والفارسية، ومن الأسباب التي جعلت من هذه المدينة أحدَ مراكز الطب الهامة في الدولة الإسلامية، إغلاق مدرسة الطب في مدينة الرها عام (489 هـ)، وما ترتب على ذلك من هجرة أغلب علمائها من السريان وغيرهم إلى جنديسابور، حتى صارت ملتقى العديد من الأطباء من مختلفي الجنسيات، وهؤلاء هم الذين تولوا تعليم الطب حتى صار هذا العلم أرقى بكثير من طب البلاد المجاورة.
وفي هذا السياق يقول القفطي: "وأهل جنديسابور من الأطباء فيهم حذق بهذه الصناعة من زمن الأكاسرة؛ وذلك سبب وصولهم إلى هذه المنزلة".
ولعلَّ الشهرة التي حَظِيت بها مدينة جنديسابور، هي التي حَدَتْ بالخلفاء العباسيين الأوائل أن يوجهوا اهتمامهم صوب هذه المدينة؛ لاستقدام كبار أطبائهم إلى بغداد، ومن هنا بدأت الحضارة العباسية تشهد نهضتها الحضارية في هذا العلم، وأول الأطباء الذين استدعاهم الخليفة أبو جعفر المنصور (136 – 158هـ/ 753 – 772م) إلى بغداد لمعالجته هو "جُورجيوس بن بَحْتَيْشُوع"، رئيس الأطباء في جنديسابور، وقد أحسن مداواة المنصور ومداراته، وصار طبيبه الخاص، وبقي في خدمته أربع سنوات متوالية، عاد بعدها إلى وطنه سنة (152ه)، مثقلًا بالأفضال والهدايا، وكان "جورجيوس" يُجِيد العربية واليونانية، إضافة إلى لغته السريانية، فترجم للخليفة بعض كتب الطب إلى اللغة العربية، وقد أثار دخولُه بغداد وما حَظِي به من تكريم وعطاء رغبةَ الأطباء السريان من أهل جنديسابور، فرحَلوا إلى بغداد، وتبوؤوا مكانةً عالية بسرعة وسهولة؛ لقلة الأطباء يومئذٍ في هذه المدينة، واحتضنهم الخلفاء والوزراء؛ حتى صاروا هم وحدهم المعوَّل عليهم في الطب على مدى قرن بتمامه، ونذكر من هؤلاء:
بَخْتَيْشُوع بن جورجيوس (ت 185هـ/ 801م)، الذي صار رئيسًا للأطباء في عهد الرشيد.
وكذلك ابنه جبرائيل (ت 213هـ/ 828م)، الذي خدم في بلاط الرشيد ما يقرب من ثلاثة عشر عامًا، وصار طبيبًا خاصًّا لولدَيْه الأمين والمأمون.
ومنهم أيضًا: عيسى بن شهلا، وسرجس، وسهل الكوسج، وابنه سابور، ابن سهل (المتوفى 255هـ/ 868م)، وداود بن سرابيون، وماسويه (أبو يوحنا)، طبيب العيون في خلافة الرشيد، والقائم على "بيمارستان بغداد".
وقد تبوَّأت أسرة "آل بَخْتَيْشُوع" مكانةً مرموقة في بغداد، وعاشوا في عز وجاه على مدى ثلاثة قرون، تعاقب خلالها ستة أو سبعة أجيال من أطباء هذه الأسرة، وتوارثوا مهنةَ الطب ترجمةً وتأليفًا وتدريسًا، وكان آخرهم أبا سعيد عُبَيدالله بن جبرائيل بن بَخْتَيْشُوع، (المتوفى حوالي 543هـ/ 1061م)[8].
وفي عهد الخليفة المأمون (198/ 218ه – 813/ 833م)، بلغ التأثير اليوناني في الطب الإسلامي ذروتَه، بفضل ازدهار حركة الترجمة، وكان يوحنا بن ماسويه الجنديسابوري (ت 243هـ/ 857م) من أبرز الأطباء المشرفين على حركة الترجمة، وكان مسيحيًّا سريانيًّا، تُرجمت باسمِه كثيرٌ من كتب الطب، قام بترجمتها حنين بن إسحاق العبادي (ت 260هـ/ 873م)، وهو أحد أشهر المترجِمين في ذلك العصر، وكان تلميذًا لابن ماسويه، وأخذَ عنه الطبَّ حتى غدا من أعلامه في بغداد، ويرجع إليه الفضل في العنايةِ بكتب أبقراط وجالينوس، وترجمتها إلى العربية، حتى قلَّ أن يوجد كتاب إلا هو بنقل حنين، أو بإصلاحه لما نقل غيره.
وفي ذلك يقول د/ أحمد فؤاد باشا: "ترجَم حنين بن إسحاق سبعةَ كتب من كتب أبقراط العشرة إلى العربية، وترجم إلى السريانية من كتب جالينوس خمسة وتسعين، وترجم منها إلى العربية تسعة وثلاثين، أخلدُها كتاب "التشريح"، وكتاب "البرهان"، الذي قال عنه حنين: "إنني جُبْتُ في طلبه أرجاءَ العراق وسوريا وفلسطين ومصر، ولم أظفر إلا بما يقرب من نصفه في دمشق"، ويعد كتاب "الفصول" لأبقراط من أهم الكتب الطبية المترجَمة من بغداد عن التراث اليوناني، ترجمه حنين بن إسحاق، وترجمه غيره".
ولم يكتفِ العرب بالترجمة عن اليونانية، بل نقلوا كذلك كثيرًا من إنتاج الفرس والهنود في علم الطب، أما الفرس، فمِن المعلوم أنه كان للحضارة الفارسية تأثيرُها الواضح على الحضارة العربية الإسلامية منذ القرن الأول الهجري، وفيما يتصل بعلم الطب، فوَفْقًا لِما يذكره ابن النديم، فقد كان من المشهورين بالطب من الفرس ممن وصل إلينا تأليفه، ونقل إلى العربية "تيادورس"، ونقل له إلى العربية "كناش" تيادورس.
وأما التأثير الهندي في علم الطب الإسلامي، فيذكر ابن النديم أن من أسماء كتب الهند في الطب الموجودة بلغة العرب كتاب "سسرد"، عشر مقالات، أمر يحيى بن خالد بتفسيره لمنكه الهندي، ويجري مجرى "الكناش"، وكتاب "استانكر" الجامع تفسير ابن دهن، وكتاب "سيرك" فسَّره عبدالله بن علي من الفارسية إلى العربية؛ لأنه نقل أولًا من الهندي إلى الفارسي.
ومن المشهورين من أطباء الهند "شاناق"، وله كتاب السموم، خمس مقالات، فسره من الهندي إلى الفارسي منكه الهندي، وقد نقله من الفارسية إلى العربية ابن حاتم الباجي؛ فسَّره بأمر يحيى بن خالد البرمكي، ثم نقل للمأمون على يد العباس بن سعيد الجوهري مولاه، وكان المتولي قراءته على المأمون.
ويقال: إن بعض الخلفاء العباسيين استدعَوا أطباء هنودًا لعلاجهم، مثلما استدعى هارون الرشيد منكه الهندي لعلاجه من علة شديدة.
وفي ضوء ما تقدَّم يمكن القول بأن العلماء العرب قد استوعبوا طب اليونان والفرس والهنود من خلال الترجمة، ثم انتقلوا إلى مرحلة التأليف المستقل؛ حيث لم يَكَدْ عصر الترجمة ينصرم حتى كانت مؤلَّفات الطب المترجمة عن اليونان والهنود في متناول أطباء المسلمين، وقد أقبل هؤلاء – كعادتهم في تعاملهم مع العلوم الأخرى المنقولة عن الأوائل – على فحص ما جاء في هذه الكتب من معلومات، وصحَّحوا ما ورد فيها من أخطاء، ثم أضافوا إليها الكثير؛ من خلال ما وضعوه من مؤلفات طبية جديدة، نتيجة للتجرِبة والملاحظة.
وهذا ما يقرره (هِلْ) في كتابه: "الحضارة العربية"؛ حيث يقول: إذا كان الأطباء الأُوَل في بغداد قد انهمكوا في ترجمة مؤلَّفات أسلافهم إلى العربية، ولا سيما أعمال أبقراط، فإن الأطباء المتأخرين – (كالرازي، وعلي بن رَبَن، وابن سينا، وابن التلميذ، وابن مَلْكَا) – استطاعوا إبعاد أعمال جالينوس وأبقراط، وأحلُّوا محلَّها كتبَهم الخاصة في معاهد الدراسة لمدى قرون طويلة[9].
ويمكننا القول بأن كبار أطباء اليونان كانوا علماء نظريينَ أكثر مما كانوا متمرِّسين بالتجرِبة والتطبيق، بينما اهتم الأطباء العرب والمسلمون – الذين تأثروا بمؤلفات أبقراط وجالينوس وغيرهما – بتطبيق ما جاء فيها من نظريات وآراء، وجرَّبوها على المرضى في مختلف الظروف والأحوال؛ فأقرُّوا ما ثبت صلاحه منها وطوَّروا قسمًا آخر، ونبَذوا ما سوى ذلك، وهذا يعني أن المؤلِّفين في الطب مِن علماء الإسلام – مع اعتمادهم في بعض مواضيع كتبهم على المؤلَّفات اليونانية – إلا أنهم أضافوا إليها الكثير مِن ابتكاراتهم وأعمالهم الأصيلة مما لم يسبقوا إليه، كما أنهم أحسَنوا تدوين تلك المعارف الطبية وتبويبها بحيث تميَّزوا على المؤلفين اليونانيين الذين لم يكونوا يحافظون على تسلسل مادة الموضوع ووحدته، ولا على التوافُقِ بين أصناف المعلومات واسم الكتاب الذي يتضمَّنها[10].
وقد واجه الأطباء المسلمون مشكلةَ الحصول على جثث بشرية للتشريح؛ لمغايرة ذلك لروح الإسلام؛ ولذلك عمدوا إلى القِرَدة فشرَّحوها.
وكان من نتيجة هذا الرأي الفقهي صعوبة تقدُّم علم التشريح إلا في بعض الفروع؛ مثل العين، وقد كان انتشار مرض العين في العراق وغيره من البلدان الإسلامية الحارَّة داعيًا إلى أن تُركَّز جهود الأطباء في هذه الناحية، وقد ترك ابن ماسويه رسالةً في معالجة أمراض العين، وكانت أقدم أثر عولج فيه هذا الموضوع بشكل علمي منظم[11].
وقد كان المسلمون العربُ سبَّاقين إلى ما يسمى بالرعاية الطبية المتجولة، أو ما يسمى بالتوعية الصحية، فقد أوعز علي بن عيسى (وزير المقتدر) إلى سنان بأن ينفذ جماعة من الأطباء يطوفون البلاد ومعهم خزانة الأدوية والأشربة، ويعالجون مَن يرونهم من المرضى، وأن يُنفذ آخرين لزيارة المرضى في السجون، وقد نال سنان بن ثابت بن قرة ما ناله من الشهرة بفضل الجهود التي بذلها لرفع المستوى العلمي لمهنة الطب، وبحسن إدارته للبيمارستان الكبير في بغداد، وهو أول بيمارستان في الإسلام، وقد أنشأه هارون الرشيد على الطراز الفارسي كما يتضح مِن اسمه.
وقد حقَّق الطب العربي الإسلامي تقدمًا في عدد من المجالات لم يسبق إليها، منها أنه طب وقائي للأصحاء بقدر ما هو طب للمرضى، فهو يعمل على حفظ الصحة أولًا، وهذا النمط من الطب مما أحدثه الأطباء العرب، ولم يكن اليونان قد مارسوه بوضوح، كما لم تمارسه أمم أخرى ممن سبقت العرب؛ إذ كانت مهام الطبيب عند العرب المسلمين هي تدبير الأجسام، وحفظ الصحة الموجودة في البدن، واجتلابها للعليل، وقد عبَّر عن ذلك الطبيب أبو سعيد سنان بن ثابت بن قرة بقوله: (إن موضوع صناعتنا حفظ الصحة لا مداواة الأمراض)، وقد صنَّف مشاهير الأطباء كتبًا في الوقاية الصحية؛ وذلك مثل كتاب الفيلسوف الكندي (رسالة في تدبير الأصحاء)، أو كتاب تدبير الأصحاء، وكتاب تقويم الصحة بالأسباب الستة، التي ذكرها؛ وهي: إصلاح الهواء الواصل إلى القلب، وتقدير المأكل والمشرب، وتقدير الحركات والسكون، ومنع النفس من الإغراق في النوم واليقظة، وتقدير استفراغ الفضلات، وأخذ النفس بالقصد في حرقة وغضبة وهم وفزع[12].
ومن مظاهر تميُّز الطب عند العرب والمسلمين اهتمامُ الأطباء بالعقاقير الطبية، وكان أكثرها في البَدْء نباتيًّا، فتوسَّعوا في استعمالها بعد اطلاعهم على كتاب ديسقوريدس (الحشائش)، ثم استخدموا العقاقير الحيوانية والمعدنية، وقد مهروا في تركيبها، وهو ما ساعد على تقدم صناعة الصيدلة التي كان العرب روَّادها، وقد أطلقوا على العقاقير الأصلية – سواء كانت نباتية، أم معدنية، أم حيوانية – اسم (الأدوية المفردة)، وإذا ما جمع عقاران أو أكثر حصل على (أدوية مركبة)، وسماه العرب (الأقرباذين)، وكان تحضير الأدوية المركبة من وظائف الصيدلي.
وقد خطا العرب خطواتٍ واسعةً في استعمال العقاقير للتداوي؛ فهم أول من أنشؤوا حوانيت خاصة لبيع الأدوية، وأقدم مَن أسس مدرسة للصيدلة، وقد ألَّفوا كثيرًا من الرسائل في الصيدلة؛ كان مِن أوائلها ما وضعه جابر بن حيان.
وكذلك صنف علي بن ربن الطبري كتابَ (منافع الأدوية والأطعمة والعقاقير)، وبحث فيه الأدوية المفردة والعقاقير، كما صنف قسطا بن لوقا البعلبكي رسالةً في الأدوية المسهلة والعلاج بالإسهال، ورسالة في ذكر إصلاح الأدوية المسهلة، ونفي ضررها، ومقدار الشربة منها وضروب استعمالها، وألف إسحاق بن حنين كتاب (الأدوية المفردة)، وكتاب الأدوية الموجودة بكل مكان، وكتاب (إصلاح الأدوية المسهلة)، ووضع ثابت بن قرة الحراني كتاب (جوامع جالينوس) في الأدوية المنقية، وكتاب (جوامع جالينوس) في الأدوية المفردة.
ولأبي بكر الرازي عدد من الكتب في الأدوية الموجودة بكل مكان، وكتاب في أثقال الأدوية المركبة، وكتاب (كيفية الاغتذاء) وهو جوامع ذكر الأدوية المعدنية، وكتاب الأقرباذين المختصر، وكتاب في الدواء المسهل والمقيئ، وكتاب في انتقاء الأدوية المركبة، وكتاب إبدال الأدوية وغيرها[13].
ومنذ البدايات الأولى للقرن الرابع الهجري أخذ الأطباء المسلمون والعرب في الاعتماد على مصادرهم ومنابع علومهم الخاصة بهم؛ ولهذا راحَتِ العلوم الطبية تنتقل بسرعة من أيدي النصارى والصابئة إلى أيدي المسلمين، وبرزت موسوعات طبية وصيدلية منتظمة؛ صُنِّفت فيها المعارف السابقة تصنيفًا دقيقًا؛ وذلك عِوَضًا عن المجموعات المأخوذة من المصادر الأجنبية المترجمة[14].
[1] ابن خلدون: المقدمة، تحقيق د/ علي عبدالواحد وافي (3/ 1026)، مكتبة الأسرة 2006م.
[2] ينظر حول علم الطب في الحضارة الإسلامية: أحمد عبدالحليم عطية، دراسات في تاريخ العلوم عند العرب، الصفحات من 358 إلى 380.
[3] د/ أحمد عوف عبدالرحمن: الأوقاف والحضارة الطبية الإسلامية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، سلسلة قضايا إسلامية، العدد 136، ص (40، 41)، جمادى الآخرة 1427ه.
[4] د/ عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص (45، 46).
[5] رحاب خضر عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام في الطب والجغرافية والتاريخ والفلسفة (2/ 12، 13)، دار الفكر، بيروت، ط1، 1993م.
[6] د/ عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص (46، 47).
[7] أحمد عبدالباقي: معالم الحضارة الإسلامية، ص (520)، بتصرف.
[8] د/ طه عبدالمقصود: الحضارة الإسلامية، ص (213، 214).
[9] د/ طه عبدالمقصود: الحضارة الإسلامية، ص (215/ 216).
[10] أحمد عبدالباقي: معالم الحضارة الإسلامية في القرن الثالث ه، ص (519).
[11] رحاب عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام، ص (13)، بتصرف.
[12] أحمد عبدالباقي: معالم الحضارة الإسلامية، ص (521) بتصرف.
[13] أحمد عبدالباقي: معالم الحضارة الإسلامية، ص (522، 523).
[14] رحاب خضر عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام (2/ 14).